بعد حدث حصار قطر انطلق تساؤل لدى المتابعين للشأن الخليجي، فما الذي يجري اليوم هناك من مفاجآت وأحداث متسارعة وخلافات وحصار وقطع علاقات وبوادر مواجهة؟
هذا الحدث هز الصورة النمطية عن الخليج العربي في أذهان المراقبين، وهي الصورة التي أريد لها أن تكون في أذهان الجميع، سواء على المستوى الخليجي أو العربي أو الدولي، بأنّ منطقة الخليج العربي خارج حركة التاريخ الطبيعية للشعوب، وخارج دائرة المشاركة والتأثير في محيطها، لتبقى تحت السيطرة والنفوذ.
لم يكن فرض الحصار على قطر من السعودية والإمارات والبحرين، حدثا منقطعا عن التحولات العميقة التي تمر بها شعوب الخليج وتعيشها على كافة الأصعدة، السياسية والاجتماعية والثقافية، فالخليج العربي منذ وقوعه تحت النفوذ الغربي وهو يشهد تحولات وتطورات على مستوى الوعي العام، وخاصة في العشرة سنوات الأخيرة، بعد التطور الهائل في الإعلام والتواصل الاجتماعي، والذي فتح آفاق التواصل المباشر بين شعوب الخليج فيما بينه ومع العالم كله، بعيدا عن القنوات الرسمية، مما أتاح لهذه الشعوب أن تعبر عن رأيها في شؤونها وقضاياها حتى أصبح لها دور أساسي في التأثير، والذي ظهر جليا اليوم في الرفض الكبير، شعبيا وإعلاميا وسياسيا، لحصار قطر وشعبها.
وأما على الصعيد العربي والدولي، فحصار قطر اليوم لم يكن بعيدا عما يجري من ترتيب دولي للمشهد السياسي العربي منذ عقود، بل جاء وفق سلسلة طويلة من الترتيبات لمشروع أمريكي غربي لإعادة تشكيل المشهد السياسي للمنطقة العربية من جديد، وذلك بعد مرور مائة عام على معاهدة سايكس بيكو.
وكان بدء هذه الترتيبات مع مؤتمر مدريد للسلام 1992م، واتفاق أوسلو 1993م، ومبادرة السلام العربية التي اطلقها الملك عبدالله بن عبدالعزيز في القمة العربية في بيروت 2002م، فاحتلال أمريكا للعراق 2003م، والذي كان من أهدافه إحداث الصدمة الكبرى والترويع في المشهد السياسي العربي، لدفع الجميع للقبول بمشروع الشرق الأوسط الجديد على أسنة الرماح ومبادرات السلام.
فسارت الترتيبات كما أريد لها أن تسير، وذلك بالتطبيع الممنهج مع إسرائيل، وبإعادة تشكيل الهيكلية السياسية للأنظمة العربية بحيث تقوم على التمثيل الديمقراطي الصوري، وفتح المشاركة لقوى المعارضة الإسلامية والوطنية لاحتواء أي دور شعبي فعال ومناهض للتسوية والتطبيع وإدخاله ضمن المنظومة العربية الرسمية.
وكانت البداية من مصر بانتخابات 2005م، والتي شارك فيها التيار الإسلامي وأعطي ربع مقاعد البرلمان، وتم تعميم التجربة المصرية على باقي البلدان العربية، كل بحسب مشهده السياسي الداخلي. وهكذا مضت الترتيبات السياسية للمشهد العربي بسلاسة كما خطط لها، حتى جاء في عام 2010م، عندما دخلت الشعوب العربية على خط المشهد السياسي العربي، بانطلاق الربيع العربي في تونس وسقوط نظام بن علي، ليتفاجيء النظام الدولي والعربي ومخططه للشرق الأوسط الجديد بانتشار الربيع العربي بشكل سريع، فوصل لقلب المشروع المخطط له في القاهرة، فسقط حسني مبارك وانفرط العقد فسقط من سقط واضطرب العالم العربي على الجميع، حتى اعترف أوباما نفسه بتفاجئه بالثورة وسقوط الأنظمة بهذه السرعة وخاصة في مصر.
حينها أدركت أمريكا والغرب والقوى الدولية الأخرى أن الشعوب العربية بثورتها وربيعها قد دخلت المشهد السياسي العربي، وأصبح تأثيرها حاسما في رسم مستقبل المنطقة العربية، والتي اتفق النظام الدولي منذ سقوط الخلافة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى على إبقائها تحت السيطرة بالتجزئة والتقسيم.
فسارعت القوى الكبرى برعاية أمريكية في إنشاء غرفة عمليات مشتركة دولية (أشار إليها الرئيس التونسي الأسبق المنصف المرزوقي في مقال له شهير) لإعادة ترتيب المشهد السياسي العربي من جديد بعد انفراط عقده، ولمواجهة الثورة العربية والالتفاف عليها وافشالها، فكان من أول أعمالهم لمواجهة الثورة العربية أن أطلقوا الثورة المضادة بالانقلاب العسكري في مصر 2013م، والمبادرة الخليجية برعاية دولية في اليمن، واتفاق الصخيرات في ليبيا، ومحادثات جنيف في سوريا، والرعاية الأوربية للعملية السياسية التونسية، ورافق هذه المبادرات السياسية التدخل العسكري المباشر وغير المباشر في كل ساحات الثورة، وأنشئت التحالفات العسكرية الجديدة والحملات الجوية العسكرية، تحت شعار محاربة الإرهاب، وشنت الحملات الإعلامية الكبرى العربية والعالمية للترويج لهذا الشعار المزيف، ليجعلوا الشعوب بين سندان الاستبداد ومطرقة الإرهاب، والهدف هو إخراج الثورة من المشهد السياسي والميداني تماما.
وواكب هذه المسارات عملية محاصرة التمويل والدعم للربيع العربي، سواء كان من الشعوب أو الدول أو المؤسسات أو الأفراد، فأغلقت الكثير من الجمعيات الإغاثية والخيرية، وشددوا الرقابة على الزكاة والصدقات، وضيقوا على القائمين بالعمل التطوعي الشعبي وحاكموا القائمين عليها وصدرت أحكام بالسجن والمنع من السفر عليهم.
وفي هذا السياق كله كانت المؤامرة بالتحديد تحاك ضد الدول التي دعمت الشعوب وربيعها، فجاء الانقلاب الفاشل في تركيا 2016 لضربها من الداخل، بسبب وقوفها مع تطلعات الشعوب العربية نحو الحرية والاستقلال، ثم جاءت محاولة الانقلاب الفاشلة في السودان 2017 قبيل القمة العربية الأمريكية ليدفع السودان ثمن وقوفه مع ثورة الشعب الليبي، وأخيرا جاء حصار قطر 2017 لوقف دعمها للمقاومة في فلسطين وتطلعات الشعوب العربية وربيعها.
ففي ظل هذه الأحداث التاريخية في المنطقة العربية والمحيط الإقليمي والدولي، لم تكن شعوب الخليج ببعيدة عن هذه الأحداث على مدى العقود الماضية بل هي في قلب كل هذه الأحداث سواء على الصعيد الرسمي أو الشعبي، وخاصة بعد انطلاق الربيع العربي، حيث بدأت شعوب الخليج تشارك بفعالية في دعم شعوب الأمة في ربيعها ولعبت دورا أساسيا في دفعها للأمام.
هذه التحولات في العالم العربي أحدثت هزة سياسية هائلة في المجتمع الخليجي، بحيث اكتشف الخليجيون أنفسهم وقوتهم الناعمة الكامنة في التأثير والتغيير، وهذا ما جعل الأنظمة في الخليج تواجه وضعا جديدا لم تكن معتادة عليه، فسارعت بعد ارتباك شديد بالعمل على احتواء الموقف، وذلك باطلاق مبادرات سياسية وشبابية صورية برعاية مجلس التعاون الخليجي، لقطع الطريق على الحراك الشعبي الذي يسير بالخليج العربي نحو الاصلاح والتغيير، واستخدمت كافة الأدوات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية لتحقيق ذلك.
وتصورت الحكومات الخليجية أنها بهذه الإجراءات الصورية قادرة على صد رياح التغيير التي تعصف بالعالم العربي، لكنها لم تدرك أن الخليج العربي أيضا يمر بتحولات داخلية عميقة قبل أن تكون خارجية، فالأزمة فيه عميقة جدا، وأكبر مما تتصورها الحكومات والمراقبون.
فالخليج العربي له من الخصوصية التاريخية ما ليس لغيره، فهو جغرافيا وتاريخيا امتداد للجزيرة العربية مهد الإسلام وموطن الحرمين الشريفين، وشعوب الخليج جلها قبائل عربية عريقة ومتجانسة عرقيا ومذهبيا.
وخلال المائة عام الماضية طرأ على شعوب الخليج تحول اجتماعي تاريخي كبير بالانتقال السريع من الحياة البدوية إلى الحياة الحضرية الحديثة، ونشوء المدن العصرية الحديثة، والانفتاح الهائل والسريع على العالم كله، وأصبح الخليج العربي منطقة جاذبة للعالم أجمع بعد العزلة التي فرضتها الجغرافيا وعززها الاستعمار.
فبدأ أبناء القبائل العربية والذين يمثلون ما يقارب ثمانون بالمئة من شعوب الخليج بالتوطن في المدن والعمل والتعلم والذي أحدث نقلة نوعية في حياتهم الاجتماعية والسياسية، وهذا ما لاحظه المستشرق الفرنسي جان جاك بيربي عند زيارته للخليج والجزيرة العربي في خمسينات القرن العشرين وألف كتابه (جزيرة العرب أرض الإسلام المقدسة وموطن العروبة وامبراطورية البترول) وأشار فيه إلى أن توطن القبيلة العربية الخليجية في المدن سيحدث تغييرات اجتماعية وسياسية في المجتمع الخليجي خلال أجيال وهذا ما نشاهده اليوم.
فالأحداث السياسية في الخليج العربي اليوم لم تكن ببعيدة عن الربيع العربي الذي يشهده العالم العربي، وهي نتاج طبيعي للتحولات العميقة في المجتمع الخليجي، فالشعوب منذ سنوات وهي تتطلع نحو دور أكبر في الحياة السياسية والمشاركة في صنع القرار، وتتطلع نحو إتاحة الفرصة لها لتحقيق ذلك بالتوافق السياسي بينها وبين حكوماتها.
هذه الأمنية الشعبية الخليجية اصطدمت اليوم بحدث حصار الشعب القطري، واكتشفت الشعوب الخليجية أنها لا زالت بعيدة كل البعد عن المشاركة في صنع القرار السياسي ومستقبلها، وأن كل التجارب السياسية ما هي إلا شكلية صورية، والأدهى أنها اكتشفت أن حصار قطر جاء مع مشروع ترامب الجديد، والقائم على نهب ثرواتهم والتطبيع مع إسرائيل وانهاء المقاومة، كل ذلك وغيره أحدث هزة عنيفة في وجدان شعوب الخليج العربي، والتي لم تتصور يوما أن حكوماتها تقوم بحصار شعب خليجي شقيق، وتمنع عنه الغذاء والدواء وحرية التنقل وتمنع تواصل الأرحام والأقارب، وتجرم حتى التعاطف معهم وبهدف معلن وصريح وهو وقف دعم المقاومة الفلسطينية ودعم الشعوب العربية ولو بالكلمة.
الذي لا شك فيه أن الخليج اليوم ليس الخليج أمس، وستأخذ هذه التحولات العميقة مداها على كافة الأصعدة، وخاصة السياسية والاقتصادية منها، ولن يجدي معها محاولات التخدير السياسي أو المالي أو الإعلامي، فالشعوب الخليجية وصلت لمرحلة من الوعي السياسي، ولم يعد بمقدور الإعلام الرسمي توجيه الرأي العام الخليجي وفق رؤى وقوالب محددة، وهذا ظهر جليا في الرفض الشعبي الخليجي لحصار الشعب القطري منذ الوهلة الأولى للإعلان عنه.
فالخليج اليوم قطعا سائر نحو التغيير، ولكن إلى أي مدى؟ وفي أي اتجاه؟
هذا ما ستسفر عنه السنوات القادمة، وستظل شعوب الخليج تتطلع نحو الحرية والوحدة والأمن، والتخلص من النفوذ والقواعد الأجنبية، والمحافظة على الثروات من النهب الخارجي والفساد الداخلي، وأن تختار حكومات تمثل إرادتها الحرة المستقلة، والمحافظة على هويتها العربية الإسلامية، وأن تكون مع الأمة في منشطها ومكرهها، هذا ما تتطلع إليه شعوب الخليج اليوم، وهذا هو الجواب لمن يسأل ماذا يحدث في الخليج؟
﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾
21 / 06 / 2017 م