في مؤتمر يالطا عام 1943م تم تشكيل النظام الدولي الجديد، لما بعد الحرب العالمية الثانية، لتحكم القوى الاستعمارية التقليدية العالم من جديد باسم المؤسسات الدولية الجديدة (الأمم المتحدة ومجلس الأمن وحق النقض الفيتو) ليعيد الاستعمار انتاج نفسه من جديد وباسم الشرعية الدولية تحت شعار السلم والعدل الدوليين .
وفي الوقت الذي استمر النظام الدولي في الترويج لأكذوبة السلم والعدل، يشهد العالم الحروب الوظيفية والمجازر والمذابح في فلسطين وفيتنام وكمبوديا ورواندا وبورما والمجاعات في أفريقيا، والنظام الدولي صامت لا يتدخل إلا إذا تعرض نفوذه للخطر كما نشهد اليوم في العالم العربي بعد الثورة التي هددت سيطرته ونفوذه في المنطقة.
فهذه الحقيقة التاريخية وللأسف غابت تماما عن الثوار العرب عند قيام الربيع العربي 2010م فتعاملوا بسطحية مع المنظومة الدولية الاستعمارية التي تحكم العالم العربي بسفاراتها وقواعدها، والتي كما قال جمال عبدالناصر عنها عندما التقى وزير خارجية بريطانيا ايدن عام 1955م في السفارة البريطانية في القاهرة (وأخيرا أرى المكان الذي تحكم منه مصر)، وليعيد التاريخ نفس المشهد في القاهرة نفسها بعد عقود وبرعاية السفيرة الأمريكية في القاهرة آن باترسون لتشكيل الحكومة المصرية بعد الانقلاب العسكري 2013م كما صرح بذلك رئيس حزب النور الذي عرضت عليه السفيرة مقاعد في الحكومة واعتذر ولم يسأل نفسه عن تدخلها!
فالمنظومة الدولية الاستعمارية هدفها هو المحافظة على نفوذها ومصالحها في العالم العربي، وأشد ما تحذر منه كما قال مستشار الأمن القومي الأمريكي زبغنيو بريجنسكي في كتابه خارج السيطرة هو (النهوض السياسي الإسلامي المنافس للسيادة الأمريكية) ولذا (ينبغي استمرار الفرقة العربية ليحافظ الغرب على مصالحه وسيطرته).
ففي ساحات ثورة الربيع العربي توقع الثوار أن النظام الدولي سيقف مع تطلع الشعوب لتحقيق الحرية والعدل وانهاء الاستبداد بأقل تكلفة ممكنة، وظنوا انهم بالتعامل السياسي مع المنظومة الدولية سيحققون الإعتراف الدولي لثورتهم ونظامهم السياسي، ليتفاجأوا بأن المنظومة الدولية نفسها هي من اعترفت بالانقلابات العسكرية ودعمت الثورة المضادة ورفضت الشرعية الثورية المنتخبة، ولم يدرك الثوار بأن الثورة العربية هي الخطر الحقيقي الذي يراه النظام الدولي مهددا لسيطرته على العالم العربي!
فمنذ اليوم الأول لثورة الربيع العربي تدخلت المنظومة الدولية الاستعمارية لإنهاء الثورة وإنقاذ النظام العربي الوظيفي في كل ساحات الثورة، كما في اليمن بالرعاية الدولية للمبادرة الخليجية لافشال الثورة وإعادة تأهيل نظام صالح بوجه جديد، لإخراج الثورة من المشهد، وشن حرب وظيفية وتقسيم اليمن بعد فشل المبادرات السياسية، وفي ليبيا تدخلت الأمم المتحدة بإتفاق الصخيرات لتمهد للإنقسام السياسي والتدخل العسكري للجنرال حفتر، وفي مصر دعمت المنظومة الدولية الانقلاب العسكري على سلطة منتخبة من الشعب ولم تعر للشرعية الشعبية ولا للقانون الدولي أي اعتبار، وفي سوريا منذ الأيام الأولى والسفير الأمريكي في دمشق روبرت فورد يعرض على المعارضة السورية للمشاركة في السلطة بشرط المحافظة على الحدود مع اسرائيل وفق معاهدة سايكس بيكو وعدم مشاركة الاسلاميين في السلطة والمحافظة على المؤسسة العسكرية والأمنية (كما أكده رئيس الحكومة السورية المؤقته د أحمد طعمة)، وعندما رفضت المعارضة، بدأت المنظومة الدولية برعاية أمريكية في فتح الساحة السورية للتدخل الإيراني والروسي وأطلقت المفاوضات السياسية في جنيف وموسكو وأستانة لإنقاذ نظام الأسد وانهاء الثورة، وفي تونس حرصت المنظومة الدولية بإشراف أمريكي وأوربي على العملية السياسية لتعود السلطة من جديد للسبسي رجل النظام السابق ووزير داخليته، وهكذا تجد في كل ساحة ثورية ممثلا دوليا لضبط المسار والتحكم به.
فهذا المشهد الواضح يكشف للثورة العربية ورجالها بأن الرهان على النظام الدولي المتآمر على الثورة العربية ما هو إلا رهان خاسر ووهم كبير تشهد به أحداث ساحات الثورة، وأن الركون لهذا النظام الدولي هو ركون للعدو نفسه، فالثورة العربية على المستوى الميداني استطاعت أن تصد موجة الثورة المضادة وأن تحبط مؤامرة النظام الدولي وتستنزف جميع القوى المعادية لها في كل الساحات على مدى 7 سنوات ولا زالت الثورة عصية على أعدائها، والثورة اليوم أحوج ما تحتاج إليه في هذا الإطار هو الارتقاء بالوعي والأداء السياسي والثوري ليواكب طبيعة الثورة العربية كونها حرب تحرر من النفوذ الاستعماري، ولعل ادراك الواقع وتاريخه وأحداثه هو أول خطوة حقيقة للتحرر من وهم نصر النظام الدولى للشعوب والمستضعفين والرهان عليه ،فالرهان الحقيقي هو على شعوب الأمة وقدرتها على التصدي للتداعي الأممي عليها، ولا يمكن لأي فصيل أو جماعة مهما بلغت من وعي وقوة أن تواجه هذا التداعي إلا بالأمة وشعوبها فهو من قامت بالثورة وهي راعيتها وحاميتها، وأما النظام الدولي الاستعماري فهو العدو الحقيقي للأمة وثورتها الذي احتل أرضها ونهب ثرواتها ومكن لطغاتها، فمن احتل أرض شعب فلن ينصر ثورته.
﴿هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾
14 شوال 1438هـ
8 / 7 / 2017م
اترك تعليقًا