البعد الديني…من الحروب الصليبية إلى الثورة العربية
بعد سقوط الخلافة العثمانية الإسلامية اجتاحت العالم العربي موجة قومية وعلمانية مادية واجهت الاستعمار الغربي بمنطلقات فكرية خارجة عن سياق تاريخ الأحداث بأبعادها ومحدداتها، واقتصرت في قراءة الواقع السياسي والتعامل معه من منظور العوامل المادية البحتة واستبعدت تماما الأبعاد الدينية المؤثرة في السياسات الغربية الاستعمارية، مما أدى ليس إلى قصور في الوعي السياسي فقط وإدراك حقيقة ما يجري وإنما أدى أيضا إلى تعطيل طاقات هائلة في قوى الأمة يمكن الاستفادة منها في تحرير الأوطان من الاحتلال الصليبي.
ومما لا شك فيه أن السياسة الاستعمارية للقوى الدولية يحكمها منطق المصالح والسيطرة على مناطق النفوذ والثروات بشكل كبير، لكن البعد الديني (الأخلاقي كما هو تعارف عليه سياسيا اليوم) حاضر بقوة في هذه السياسة الاستعمارية ورجالاتها، (فأوربا والتي شكلت المسيحية ثقافتها وتاريخها هي نفسها القارة التي انطلقت منها الحروب الصليبية والحملات الاستعمارية، ولهذا فالبعد الديني والثقافي وأثره حاضر بقوة في السياسات الغربية الاستعمارية الحديثة ) “أوربا والمسيحية” ليان دوبراتشينسكي.
والعالم العربي تاريخيا من أكثر المناطق تعرضا لشراسة الحملات الصليبية الغربية الاستعمارية منذ أن أطلق البابا أوربان الثاني الحملات الصليبية عام 1095م ونادى في خطابه ملوك أوربا (كفوا عن الصراع بينكم واذهبوا لمحاربة الشعوب التي تحتل أورشليم – القدس)”أوربا والمسيحية”، وبهذا النداء البابوي دخل الغرب المسيحي في صراع مع الشرق الإسلامي وأصبح عاملا أساسيا في طبيعة العلاقات بين الحضارتين إلى يومنا هذا، ولا يزال مؤثرا وبقوة في واقعنا السياسي وإن حاولت السياسة الغربية الاستعمارية اخفاءه وعدم إبرازه ومحاولة الظهور بالثوب العلماني المادي البحت تحت مظلة القانون الدولي والمؤسسات الدولية والمصالح المتبادلة.
فقضية البعد الديني أو الأخلاقي كما يسمى اليوم في السياسة الغربية لم تغب تماما، وفي ظل ثورة الربيع العربي ينبغي معرفة دور البعد الديني وأثره لإدراك طبيعة دور القوى الغربية الاستعمارية في مواجهة الثورة ودعمها للأنظمة الوظيفية والثورة المضادة وإنزالها جيوشها كما فعلت أمريكا في العراق وسوريا وروسيا في سوريا وفرنسا في ليبيا، فالصليبية حية ومؤثرة كما قالت كارين أرمسترونغ في كتابها “الحرب المقدسة” (الصليبية ليست تقليدا من القرون الوسطى مندثرا بل ما برحت حية بأشكال شتى في أوربا وأمريكا على السواء)، وهو ما أعلنه الرئيس ريغان في خطابـه في 3/8/1984م في حملته على محور الشر قائــلا ( يلعب الدين دورا حاسما في الحياة السياسية لأمتنا) “البعد الديني في السياسة الأمريكية” ليوسف الحسن.
فوعد بلفور البريطاني بعد اعتماده من الرئيس الأمريكي ويلسون في واشنطن مايو 1917م وكما وصفته المؤرخة اليهودية تشابمان (ما كان لوعد بلفور أن يصدر من دون التراث اليهودي)، وهذا الوعد الشهير سبقه مذكرة بلاكستون الأمريكية في 5/3/1891م الموجهة للرئيس هاريسون ووقعها كبار الساسة الأمريكان والتي صدرت قبل المؤتمر الصهيوني الأول عام 1896م، والتي دعت القوى الكبرى إلى إعادة فلسطين إلى اليهود لأنها وطنهم بحسب توزيع الله للأمم، فالمذكرة والوعد لا زالا يحكمان السياسة الأمريكية والغربية اتجاه التزامها بأمن إسرائيل وهو ما قالته بكل وضوح مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية في كتابها المهم “الجبروت والجبار” (التزام أمريكا بأمن إسرائيل نابع من التراث الديني المشترك، وجذور السياسة الأمريكية ترجع إلى إعلان وعد بلفور).
وتصف مادلين أولبرايت وزير خارجية أمريكا في كتابها “الجبروت والجبار” عن دور المعتقد في تشكيل مرحلة كامب ديفيد فتقول (ومن أشهر الأمثلة على صنع السلام القائم على المعتقد ما حققه الرئيس كارتر في كامب ديفيد عام 1978م والذي لولا قدرة كارتر على فهم القناعات الدينية العميقة للسادات وبيغن ما تحقق، وأكد لي كارتر أنه يجب أن يفكر صانعو السياسة في الدين كجزء من أحجية السياسة الخارجية لأنه ليس من الممكن فصل ما يشعر به الناس ويؤمنون عما سيقومون به كسياسة عامة)، فمرحلة كامب ديفيد التي حكمت المنطقة العربية بمنظومتها السياسية والعسكرية والثقافية لثلاثة عقود أقامتها السياسة الأمريكية وفق معتقدات والتزامات أخلاقية اتجاه إسرائيل لتحافظ فيه أمريكا على نفوذها وسيطرتها على المنطقة العربية.
ويعود الرئيس كارتر في خطابه أمام الكنيست الإسرائيلي في عام 1979م ليؤكد على أثر البعد الديني في السياسة الأمريكية بالقول بأن (سبعة من الرؤساء الأمريكيين آمنوا بأن علاقتنا مع إسرائيل متجذرة في ضمير وأخلاق ودين ومعتقدات الشعب الأمريكي لقد شكل إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية مهاجرون ونتقاسم تراث التوراة) “البعد الديني في السياسة الأمريكية” يوسف الحسن.
وقبل احتلال أمريكا للعراق عام 2003م أطلق الرئيس بوش إعلانه الشهير (ستكون حملة صليبية) واصفا حربه واحتلاله للعراق بعدما رأى معارضة أوربية غربية لهذه الحرب، وايقظ نداؤه الروح الصليبية وأمجادها، فتداعت أوربا وشاركت في احتلال العراق، فشعار بوش بتحرير الشعب العراقي إنما أطلقه لتبرير الحرب أخلاقيا ولتغطية أبعاده الحقيقية ، لكن هذا الشعار لم ينطل على الشعب العراقي كما قالت أولبرايت في كتابها “الجبروت والجبار” (الكلمات المنمقة ستفشل أمام قوة عسكرية مسيحية تحتل مدينة بغداد كانت لقرون عاصمة الإسلام) وهو ما حدث بانطلاق المقاومة العراقية منذ اليوم الأول للاحتلال ولم تلتفت لشعار بوش، وإن كان أصدق القوم في التعبير عن أثر معتقده في سياسته الخارجية (فمعتقدات بوش هي التي قادته إلى الغزو والاحتلال) على حد وصف أولبرايت.
فالقوى الدولية الاستعمارية، مع أخذها بكل الأبعاد المادية، فالبعد الديني أداة في سياستها الخارجية كما قالت أولبرايت في كتابها “الجبروت والجبار” (الدبلوماسية القائمة على المعتقد أداة مفيدة في السياسة الخارجية) فسياسة هذه القوى الخارجية تعبر عن معتقد شعوبها وهويتها وثقافتها لتحقيق مصالح بلدانهم.
ومع ثورة الربيع العربي 2010م وكطبيعة الثورات في بداياتها تنحو منحى العفوية أحسنت قواها الثورية الظن بالقوى الغربية التي ترفع شعارات الحرية والديموقراطية، ظنا منها بأن القوى الغربية ستقف مع تطلعات الشعوب في الحرية وإنهاء الاستبداد، لكنها تفاجأت بزيف هذه الشعارات وظهر حقيقة الموقف الغربي الاستعماري بعد دعم الانقلاب في مصر والثورة المضادة في كل ساحات الربيع العربي، فكيف تقف هذه القوى مع ثورة شعب وهم بالأمس القريب لم يقبلوا نجاح الجبهة الإسلامية للإنقاذ الجزائرية في انتخابات شرعية وهو ما عبر عنه بكل وضوح جيمس بيكر وزير خارجية أمريكا بقوله (فنجاح الجبهة الإسلامية للانقاذ يتعارض مع ما نؤمن به ومع المصالح الوطنية الأمريكية) “الجبروت والجبار” مادلين أولبرايت، فالقوى الاستعمارية ترى أن حرية شعوبنا تتعارض مع تؤمن به ومع مصالحها الوطنية، وهي لا تتوانى في استحضار البعد الديني في سياستها الخارجية وحملاتها العسكرية كلما اقتضت الحاجة لذلك، مثلما أعلنت الكنسية الروسية دعمها للتدخل الروسي العسكري المباشر في سوريا عام 2014م لمواجهة ثورة الشعب السوري واعتبرته معركة مقدسة https://goo.gl/ntLgeQ.
فالعالم العربي بعد ثورة الربيع العربي قد تغير للأبد وأصبحت كل الأبعاد الدينية والمادية حاضرة بقوة في ساحات الثورة، والقوى الغربية تدرك هذا وستواجه الثورة وهذا متوقع وطبيعي لتحافظ على نفوذها وسيطرتها وستستخدم كل الأبعاد ، ولهذا ففهم الأبعاد الدينية والثقافية والمادية على حد سواء للسياسات الغربية والحملات العسكرية وخاصة في هذه المرحلة من ثورة الربيع العربي في غاية الأهمية لنعيد التوازن لقراءة المشهد السياسي العربي على حقيقته لا كما يريد أعداؤها.
إن أشد ما تحتاجه قوى ثورة الربيع العربي هو ما تحتاجه كل ثورة على مر التاريخ، وضوح في الرؤية والوعي بطبيعة المعركة وأبعادها، وثورة الربيع العربي لها خصوصيتها الحضارية والتاريخية والثقافية، فالإسلام وتاريخه حاضر بقوة في مشهد الثورة وهو ما أشار إليه السفير الأمريكي في سوريا روبرت فورد في تفاوضه مع قوى معارضة سورية بعد أسبوعين من قيام السورية حيث قال (نحن على استعداد لحل سياسي، فإمكانكم مشاركة الأسد في السلطة بشرط عدم مشاركة القوى الإسلامية السياسية والمحافظة على حدود سايكس بيكو وبقاء المؤسسات الأمنية والعسكرية) وهو ما رواه د. أحمد طعمة رئيس الحكومة السورية المؤقتة سابقا وأكد تفاجأه بالشروط التي لم يكن يتخيل أنها لا زالت حاضرة في المشهد.
فعندما ثارت الشعوب العربية ظنت أنها تواجه نظاما مستبدا قادرة على تغييره حالها كحال شعوب العالم، لكنها تفاجأت بأنها أمام استقلال صوري ولا زلت أوطانها خاضعة لنفوذ وسيطرة القوى الاستعمارية ، وصل لدرجة أن ميزانيات دولها لا زالت تعتمد في عواصم القوى الدولية، كما في ميزانية ليبيا لعام 2017م والتي اعتمدت في روما https://goo.gl/V5oCKo بالرغم من دعوى الاستقلال لعقود.
فثورة الربيع العربي كشفت حقيقة المشهد السياسي للعالم العربي بكل أبعاده أمام الشعوب‘ ولم يعد بإمكان القوى الدولية إخفاء سياساتها الاستعمارية وسيطرتها خلف سيادة القانون والنظام الدولي، وعلى قوى ثورة الربيع العربي استحضار الإسلام كعقيدة وكهوية وتاريخ لتكون قوة فاعلة ومؤثرة، مثلما تستحضر القوى الاستعمارية البعد الصليبي وتستفيد من تجربتها في الصراع التاريخي مع الشرق الإسلامي وأهمية الحروب الصليبية في انتصارها وحمايتها (الحروب الصليبية قامت بحماية أوربا من الإسلام) الحروب الصليبية – أرنست باركر.
فهذه هي حقيقة معركة الثورة في العالم العربي فهي معركة تحرر وصراع تاريخي بكل أبعاده، وبحضور الإسلام في معركة الثورة ستصبح ثورة الربيع العربي وقواها أكثر قوة وقدرة على المواجهة والتصدي للقوى الاستعمارية والثورة المضادة التي بدأت تكشف عن عدائها الصريح للإسلام بعد تصريح السفير الإماراتي العتيبة بأنهم يريدون حكومات علمانية تحكم العالم العربي المسلم والذي أطلقه إداركا منه بأثر البعد الديني والعقدي في توجيه السياسة الغربية، فطبيعة الصراع بين الثورة وأعدائها ظهرت حقائقه بالرغم من تحاشي الجميع التصريح به او إظهاره، لكن الحقائق هي التي تبقى على الأرض وتظهر في السياسات والمواقف.
﴿والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون﴾
9 ذو القعدة 1438هـ 2 / 8 / 2017م
اترك تعليقًا