أبدع شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بتقسيمه لمعاني الشرع إلى:
•الشرع المنزل وهو ما جاء به الرسول وهذا يجب اتباعه ومن خالفه وجبت عقوبته.
•الشرع المؤول وهو آراء العلماء المجتهدين فيها كمذهب مالك ونحوه. فهذا يسوغ اتباعه ولا يجب ولا يحرم، وليس لأحد أن يلزم عموم الناس به ولا يمنع عموم الناس منه.
•الشرع المبدل وهو الكذب على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أو على الناس بشهادات الزور ونحوها والظلم البين فمن قال إن هذا من شرع الله فقد كفر بلا نزاع. كمن قال: إن الدم والميتة حلال – ولو قال هذا مذهبي ونحو ذلك.”مجموع الفتاوى ج 3 ص 268″
وكأن شيخ الإسلام رحمه الله بهذا التقسيم وهو الذي عاش في القرن السابع الهجري يتنبأ بما ستقع فيه الأمة بعد سبعة قرون من تبديل للشرع في عصرنا هذا بعد سقوط الخلافة ووقوع الأمة تحت حكم الاحتلال الصليبي والاستبداد الوظيفي وتبديله للشرائع والقوانين ونسبة ذلك إلى الإسلام ومن أخطرها الخطاب السياسي المبدل الذي يروج له اليوم مع قيام الثورة العربية بأن الإسلام لم يأت بشكل لنظام سياسي للحكم وإنما جاء بمبادئ وقواعد عامة.
ومن هذا الشرع المبدل وخطابه السياسي انطلق المقاصديون أتباع علي عبدالرازق الجدد نحو الدعوة والترويج للديمقراطية الغربية بفلسفتها وأصولها اليونانية والرومانية وإجازتها باسم الإسلام ومقاصده وغاياته في حين أن الإسلام جاء ليسقط كل طاغوت يحكم بغير ما أنزل وعلى رأسها القيصرية الرومانية التي تحكم العالم آنذاك وتستعبده بالفلسفة اليونانية ونظرياتها السياسية والقوانين الرومانية الوضعية.
لقد جاهد النبي ﷺ طغيان القيصرية الرومانية البيزنطية كما في غزوة تبوك ومعركة مؤتة ودعا ﷺ هرقل قيصر الروم إلى الإسلام وحكمه فخاطبه ﷺ في رسالته التاريخية (بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم: سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ” و ﴿يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ﴾ ) رواه البخاري ولم يدعه ﷺ للرجوع للحكم الديمقراطي الذي ألغاه القياصرة الرومان منذ يوليوس قيصر واستبدوا بالسلطة والحكم.
ولكن ما نراه اليوم من ترويج ودعوة لخطاب سياسي مبدل هو ما أخبر به النبي ﷺ وحذر منه (قال حذيفة بن اليمان: كان الناس يسألون رسول الله ﷺ عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: «نعم» قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: «نعم، وفيه دخن» قلت: وما دخنه؟ قال: «قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر» قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: «نعم، دعاة إلى أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها» قلت: يا رسول الله، صفهم لنا؟ فقال: «هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا» قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال «فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك) رواه البخاري…
فجمع هذا الحديث العظيم بين ما استنبطه شيخ الإسلام رحمه الله من تقسيم دقيق لمراحل تطبيق الشرع وما أخبر به النبي ﷺ بما ستواجهه الأمة من تبديل للشرع وأحكامه وخاصة في طبيعة النظام السياسي الحاكم وهذا ما أشار إليه النبي ﷺ عندما حث حذيفة على لزوم جماعة المسلمين وإمامهم أي الخلافة وأنه عند فقدانها فإن ما يبقى إنما حكام ودعاة وفرق يجب اعتزالهم والحذر منهم ومن خطابهم المزيف وشرعهم المبدل.
ولهذا تجد أن هذا الشرع المبدل بالرغم من مرور قرن على سيطرته على النظام السياسي الحاكم والساحة العلمية والفكرية والثقافية فقد فشلت القوى الاستعمارية والأنظمة الاستبدادية في ترسيخ هذا الشرع المبدل وخطابه السياسي المزيف باسم الديمقراطية والعدل وذلك لرفض الأمة وشعوبها سيادة أي نظام سياسي عليها غير الإسلام فهل يدرك أتباع علي عبدالرازق الجدد ذلك أم يبقون دعاة لديمقراطية ودجل الغرب الصليبي…
فمنذ أن حذر النبي ﷺ من هذا الشرع المبدل وخطابه السياسي مرورا بعصر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى يومنا هذا تصدى علماء الأمة لهذا الخطاب المبدل كما في عصرنا الحالي كالشيخ محمد رشيد رضا في مجلة المنار وفي كتابه (الخلافة أو الإمامة العظمى) والدكتور عبدالرزاق السنهوري في كتابه (الخلافة) وأخيرا ما جلاه شيخنا واستاذنا أ.د حاكم المطيري عن المراحل التاريخية للخطاب السياسي في الإسلام في كتابه (الحرية أو الطوفان) ودراسته لأصول الخطاب السياسي القرآني والنبوي والراشدي في كتابه (تحرير الإنسان وتجريد الطغيان) ليتجلى للأمة وشعوبها بما كشفه هؤلاء العلماء وغيرهم عن حقيقة الخطاب السياسي في الإسلام كما أنزل على محمد ﷺ وليس كما يروج المقاصديون الجدد لخطاب سياسي مبدل مستمد من نظريات سياسية نبتت وترعرعت في الغرب المسيحي ليصدق فيهم حديث النبي ﷺ (لتتبعن سنن من كان قبلكم، شبرا شبرا وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموه، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن) رواه البخاري.
الثلاثاء 25 ذوالقعدة 1439هـ
7 / 8 / 2018م
اترك تعليقًا