الثورة المضادة الناعمة…!
(إن الخطر الأكبر الذي يهدد الدول المسيحية هو الإسلام نفسه وأن تقوم ثورة في وقت واحد من المغرب حتى الشرق الأقصى) المستشرق الفرنسي كارا دي فو 1867-1953م
إن ما تخوف منه هذا المستشرق وتنبأ به قبل قرن وقع مع قيام الثورة العربية والنهضة التركية وبوادر النهضة والتحرر في الشرق الإسلامي في أندونيسيا وماليزيا وباكستان وأخيرا في أفغانستان والتي تواجه فيها أمريكا وحلف الأطلسي هزيمة عسكرية دفعتها للتفاوض مع الإمارة الإسلامية (طالبان) للانسحاب…
وقد طرح المستشرق الفرنسي دي فو رؤيته لمواجهة خطر قيام هذه الثورة فقال (يتعين علينا شق العالم الإسلامي وكسر وحدته الأخلاقية ونستغل الإنقسامات العرقية والسياسية ونشدد من حدتها بزيادة الحس الوطني والإقلال من المشاعر الدينية…لنشتت الإسلام ونستغل البدع الإسلامية والطرق الصوفية لإضعاف الإسلام وجعله عاجزا إلى الأبد عن اليقظة) “موسوعة العلوم السياسية ص894 بإشراف د محمد محمود ربيع و د اسماعيل صبري مقلد – جامعة الكويت 1994م“…
وبهذا يتضح أن كل المشاريع العلمية والفكرية والتي تبنتها مراكز الدراسات الغربية كمركز راند ودراساته لتشكيل الإسلام الوسطي والمعتدل لم تخرج عن رؤية المستشرق الفرنسي دي فو…
لقد طرح تقرير اللجنة الدائمة للتخطيط الاستراتيجي المتكامل بعيد المدى 1988م في أمريكا بمشاركة كيسنجر وبريجنسكي تصورا لمصادر تهديد الأمن الغربي والحضارة الغربية واعتبر الأصولية الإسلامية من أهم هذه المهددات، ولقد اعتبر الغرب مرحلة الحرب الباردة مع الشيوعية مرحلة استثنائية ومع سقوط الاتحاد السوفيتي الشيوعي عاد الصراع إلى مجراه الطبيعي بين الحضارة الغربية والإسلام “موسوعة العلوم السياسية ص892″…
ولهذا ولمواجهة هذه الإصولية الإسلامية الرافضة للاحتلال والواقع الذي فرضه على الأمة تم فتح المشهد السياسي والفكري والعلمي المبرمج للجماعات الإسلامية التي تقبلت الواقع السياسي القطري والوجود الأجنبي الغربي وفتح لها أبواب المؤسسات كوزارات الأوقاف والمساجد والمنابر والجمعيات الخيرية والمؤسسات العلمية والتربوية كالمجامع الفقهية والاتحادات العلمائية والمدارس الخاصة والمؤسسات المالية كالبنوك والشركات الإسلامية…
لقد جاء هذا كله ضمن الخطط الأمريكية والأوربية لمواجهة صعود الإسلام ونهضته والتحكم بدوله وجماعاته وتوظيفها بما يخدم السياسة الغربية وأهدافها في العالم الإسلامي…
ومع قيام الثورة العربية اهتز النظام الدولي وقواه الغربية الاستعمارية وظهرت أمامه بوادر ما تخوف منه المستشرق دي فو من تحرر الأمة وعودة الاسلام والذي يعتبر الجدار الوحيد في وجه الاستعمار على حد تعبير د لورنس براون…
ولهذا سارعت قوى النظام الدولي إلى تفعيل أدواتها الوظيفية لاختراق حصون الثورة العربية من أنظمة وجماعات وأحزاب، فانطلقت الثورة المضادة والتي يظن الكثيرون أن الأنظمة المستبدة ومليشياتها هي الثورة المضادة لكن الحقيقة أعمق من ذلك بكثير وبمسميات مختلفة وبوجه إسلامي وعلمي وفكري وديمقراطي…
فانطلقت مع الثورة المضادة ثورة مضادة ناعمة تسير في ركابها وتنفذ أجندة التفاهمات التاريخية بين الجماعات والأنظمة وبرعاية النظام الدولي وقواه، فدخلت الجماعات والاتحادات العلمائية والمفكرون على الخط الفكري للثورة لتوجيهها للقبول بالواقع القطري وتعزيز الحس الوطني بطرح خطاب علي عبدالرازق من جديد الذي ينكر شرعية الخلافة ووجود نظام سياسي في الإسلام وهو ما تولى كبره الريسوني وغيره كثير ممن يعد من العلماء والمشايخ ممن يؤمن بهذا الرأي ويرى شرعية الواقع السياسي القطري…
ودخلت الجماعات والأحزاب الوظيفية على الخط السياسي للثورة وصدرتها قوى الثورة لحسن ظنها بها لنرى بعد ذلك كيف أدت دورها الوظيفي هذه الجماعات والأحزاب في احتواء الثورة سياسيا وسلمت السلطة لرجال الأنظمة التي أسقطتها الشعوب كما في مصر مع السيسي وتونس مع السبسي واليمن مع منصور وهو ما يراد اليوم إعادته في السودان والجزائر وليبيا…
فمواقف قوى الثورة المضادة الناعمة وفكرها وما تتبناه من رؤى شرعية لا يختلف عما تريده الثورة المضادة المعلنة فكلاهما يريدان المحافظة على الواقع السياسي القطري والوطني تحت رعاية النظام الدولي والفرق إن كان هنالك فرق يذكر فهو تحسين شروط التبعية لهذا النظام الاستعماري تحت شعارات مشاريع الوسطية والديمقراطية والنهضة والقيم والمقاصد لإضفاء الشرعية على مواقفهم وأدوارهم الوظيفية…
فمنذ سقوط الخلافة قبل قرن تم إعادة تشكيل المنظومة السياسية والفكرية والعلمية والثقافية بدولها وجماعاتها وأحزابها من جاكرتا شرقا إلى الرباط غربا، ولهذا فلا يتصور من جماعات وحركات وأحزاب إسلامية وغيرها تشكلت وترعرعت في ظل هذه المنظومة المصطنعة أن تقود الثورة وتحقق تطلع الأمة للتحرر من الاحتلال والاستبداد وهذا ما يفسر انكشافها السياسي والفكري وسقوطها في كل الساحات…
إن الرهان الحقيقي على الأمة وشعوبها وقواها المجاهدة الحرة لقيادة المرحلة الثانية من الثورة بعدما كشفت الموجة الأولى منها حقيقة الثورة المضادة الخفية!
﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾
السبت 6 رمضان 1440هـ
11 / 5 / 2019م
اترك تعليقًا