الغرب…والشبكات الإسلامية الوظيفية!

إن الحملة الصليبية البريطانية الفرنسية الأخيرة التي أسقطت الخلافة العثمانية الإسلامية في الحرب العالمية الأولى ليست حدثا تاريخيا ولى زمانه ولم يعد لها تأثير بل لا زال العالم العربي تحت هيمنتها ونفوذها السياسي والاقتصادي والثقافي والديني!
فهذه الحملة الصليبية مثلما شكلت النظام السياسي العربي بملكياته وجمهورياته وإماراته فقد شكلت المنظومة الدينية والعقائدية والثقافية للعالم العربي لتكون رديفا لهذا النظام العربي الوظيفي الذي شكله ونستون تشرشل في مؤتمر القاهرة عام ١٩٢١م والذي يعد من أخطر المؤتمرات ولم تنشر محاضره إلى يومنا هذا!
وبعد الحرب العالمية الثانية انتقلت قيادة الحملة الصليبية بشكل تدريجي إلى أمريكا كما اقترح تشرشل “سلام ما بعده سلام ص٥٦٢” والتي كانت مؤسساتها الإنجيلية التعليمية منتشرة في العالم العربي كالجامعة الأمريكية في بيروت معقل القوميين واليساريين والجامعة الأمريكية في القاهرة معقل الليبراليين في العالم العربي!
لكن النفوذ الغربي في العالم العربي أصبح مهددا من الاتحاد السوفيتي الشيوعي الذي اخترق التيارات القومية واليسارية، وأدركت أمريكا وأوربا بأن المواجهة مع الشيوعية ستكون حربا باردة وبالوكالة، وظهرت الحاجة للفكر الديني سواء لمواجهة الشيوعية أو لمواجهة أي حراك شعبي تحرري.
ولذا ومنذ الخمسينيات إلى يومنا هذا أصبحت المؤسسات الدينية والجماعات الإسلامية في صلب السياسة الأمريكية والأوربية في العالم العربي كأدوات وظيفية فاعلة لحماية نفوذها والأنظمة العربية الموالية لها.
وقد مرت السياسة الغربية في تأسيس شبكات إسلامية وظيفية بعد الحرب العالمية الثانية بأربع مراحل:
فالأولى مرحلة مشروع الرئيس الأمريكي أيزنهاور وعرف بمبدإ أيزنهاور في عام ١٩٥٧ والذي نص على حماية الشرق الأوسط من خطر الشيوعية العالمية، وكان الرئيس الأمريكي أيزنهاور قد بدأ ببناء علاقات مع الحالة الإسلامية بلقاء قيادات من الحركة الإسلامية في عام ١٩٥٣ ” انظر ويكيبيديا الإخوان المسلمين: أحداث في صور..سعيد رمضان والرئيس الأمريكي أيزنهاور في البيت الأبيض”، وكان هذا اللقاء تم على هامش مؤتمر (الثقافة الإسلامية في علاقتها بالعالم المعاصر) والذي نظمته جامعة برنستون بإشراف مكتبة الكونغرس الأمريكي ليكون فاتحة التوظيف الأمريكي للحركة الإسلامية لمواجهة الشيوعية العالمية والذي أكد أيزنهاور بأن (إدارته لن تسمح بوصول الاتحاد السوفيتي للبحر المتوسط وقناة السويس والنفط وبحيراته وأنابيبه التي تنير منازل ومصانع أوربا الغربية) “مذكرات أيزنهاور ص٨٢”.
وفي سياق هذا التوظيف الأمريكي والأوربي للحالة الإسلامية جاء إنشاء رابطة العالم الإسلامي عام ١٩٦٢ ومنظمة المؤتمر الإسلامي عام ١٩٦٩ لتشكيل جبهة إسلامية وظيفية رسمية وشعبية لمواجهة الشيوعية العالمية في الحرب الباردة.
وبدأت المرحلة الثانية مع توقيع اتفاقية كامب ديفيد عام ١٩٧٨ واتخذت مسارين متوازيين:
الأول : فتح الطريق للحركة الإسلامية للمشاركة السياسية في البرلمانات العربية وللسيطرة على الاتحادات الطلابية الجامعية وإطلاق مشروع الصحوة الإسلامية من قمة مكة عام ١٩٨٠ بعد حادثة الحرم الشهيرة، لتصبح الحركة الإسلامية وجها شعبيا للنظام العربي يحتوى به أي حراك أو ثورة يواجهها هذا النظام كما حدث عندما اصطفت الحركة الإسلامية في انقلاب البشير في السودان عام ١٩٨٨ وانقلاب الجزائر عام ١٩٩٢ وغيرهما مما واجهته الأنظمة العربية من الخليج إلى المحيط.
والثاني : توجيه الحالة الجهادية في العالم العربي لمواجهة الاحتلال السوفيتي الشيوعي لأفغانستان وفي الوقت نفسه التخلص من خطر التيار الجهادي على النفوذ الغربي في الشرق الأوسط وعلى النظام العربي الوظيفي.
وأما المرحلة الثالثة فبدأت مع حملة بوش الصليبية باحتلال أفغانستان عام ٢٠٠١م والعراق عام ٢٠٠٣م، وتعد هذه المرحلة من أخطر المراحل على الإطلاق كون هذه الحملة الصليبية الأمريكية جاءت بمشروع سياسي تغريبي باسم نشر الديموقراطية يرتكز إلى مشروع فكري ثقافي كشفته تقارير مركز راند المدعوم من وزارة الدفاع الأمريكية خاصة تقرير “الإسلام الديموقراطي المدني: الشركاء والموارد والاستراتيجيات” وتقرير “بناء شبكات مسلمة معتدلة”.
وعلى الفور بدأ يتصدر المشهد السياسي الدعوة للديموقراطية وسدنتها من نخب الحركة الإسلامية وأحزابها تحت مظلة الرعاية الغربية، وأنشأ النظام العربي المؤسسات والهيئات العلمائية ودعمها كالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين عام ٢٠٠٤م في قطر كواجهة علمائية للحركة الإسلامية، ومؤسسة طابة عام ٢٠٠٥م كواجهة للتصوف، لتكون مثل هذه الهيئات المرجعية الشرعية للرأي العام العربي بعد فشل الهيئات والمؤسسات الدينية الرسمية في التأثير على الشعوب وتوجيه الرأي العام بما يخدم لنظام العربي.
والمرحلة الرابعة من السياسة الغربية في توظيف الشبكات الإسلامية سواء أحزاب سياسية أو هيئات علمائية جاءت مع ثورة الربيع العربي عام ٢٠١١م، ففي هذه المرحلة ظهر الأثر العملي لتغريب الحالة الإسلامية ونخبها السياسية والفكرية وتوظيفها!
ففي بلدان الربيع العربي تفاهمت أحزاب الحركة الإسلامية سياسيا في تونس(حركة النهضة) ومصر (حزب العدالة والحرية) واليمن (حزب الإصلاح) والمغرب (حزب العدالة والتنمية) والجزائر (حزب مجتمع السلم حمس) مع الأنظمة برعاية السفارات الأمريكية والأوربية وأعادت إنتاج النظام العربي من جديد بعدما كاد أن يسقط!
وأما الهيئات العلمائية فقد تصدت للفتوى والفكر في ساحات الثورة توجيها وتنظيرا كالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي شرعن للواقع السياسي وتبني الدعوة للديموقراطية الغربية كخيار شرعي للنظام السياسي ما بعد الثورة وحرف بوصلة الثورة وجماهيرها عن الدعوة لتطبيق الشريعة وإقامة الدولة الإسلامية، وتبنى رئيسه د أحمد الريسوني خطاب علي عبد الرازق الاستشراقي في كتابه “فقه الثورة: مراجعات في الفقه السياسي الإسلامي” ونص فيه على (أنه ليس عندنا في الإسلام نظاما سياسيا معينا ومفصلا لا باسمه ولا بهياكله الدستورية ولا بترتيباته القانونية والإدارية…ولا وجود في الإسلام المنزل أي القرآن وصحيح السنة لما يسميه البعض نظام الحكم الإسلامي أو نظام الخلافة الإسلامي)ص٨٣، ليوجه بهذا الخطاب المبدل ثورة الربيع العربي عقائديا وسياسيا لتبني خطاب علي عبد الرازق الاستشراقي الذي شرعن لإلغاء الخلافة العثمانية الإسلامية ليحول بين الأمة وحلمها بالوحدة تحت راية الإسلام كدين ودولة، ولينتهي المطاف بالاتحاد بنفي أمينه العام إطلاق وصف الصليبية على الحملات والحروب التي يشنها الغرب على الأمة في فتواه “حكم بإطلاق وصف الشهيد على غير المسلم والدعاء له بالرحمة والمغفرة”.
فهذا الخطاب المبدل الوظيفي الذي ينفي النظام السياسي الإسلامي ويلغي إطلاق وصف الصليبية على حملات الغرب وحروبه على الأمة يفسر حقيقة الخطاب السياسي لأحزاب الحركة الإسلامية ونخبها الذي خلى تماما من الدعوة لإقامة الخلافة كما نص عليه حديث النبي ﷺ وتبنيها للإسلام الديموقراطي المدني كما نص عليه تقرير راند.
ويفسر كذلك موقف الحركة الإسلامية وأحزابها ونخبها من الوجود الغربي الصليبي وقواعده العسكرية الذي تراه تعاونا وتفاهما بين القوى الدولية وبين النظام العربي الذي أصبحت جزءا منه ومتبنية مواقفه سواء في دعم الاحتلال الأجنبي أو في احتواء الثورة أو في التطبيع مع الكيان الصهيوني!
فهذه المراحل التاريخية لتأسيس الغرب لشبكات إسلامية وظيفية لا يزال تأثيرها مستمرا وينبغي الوعي بخطورة هذه الشبكات ليس على التحرر والثورة فقط وإنما على الدين نفسه الذي ستحوله هذه الشبكات الوظيفية بخطابها الاستشراقي إلى دين ممسوخ يرسخ للاستبداد ويشرعن للاحتلال والتطبيع، فخذوا حذركم من هذا الخطاب وسدنته ‏﴿وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۖ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ﴾.


الثلاثاء 16 شوال 1443هـ
17 / 5 / 2022

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

إنشاء موقع إلكتروني أو مدونة على ووردبريس.كوم قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑

%d مدونون معجبون بهذه: